أطفال برتبة معينات منزليات..«سكيزوفرينيا» المشرع التونسي عمقت الظاهرة والمشغّل متورط مسكوت عنه..


في عمر الأربعين ورغم كل تلك السنوات التي مضت ونجاحها في الحصول على الاستاذية في الحقوق وصعود السلم الاجتماعي ودخولها معترك سوق الشغل، لم تنس منية تفاصيل ذلك اليوم الذي طبع في ذاكرتها. كانت في السنة النهائية للمرحلة الابتدائية حين جاء والد صديقتها نجمة الى القسم، تحدث الى المعلم اخذ رفيقة دربها من يدها وغاب.. احتارت وتساءلت ماذا جرى في دار الجيران.. ورجت ان يكون المانع خيرا..
عادت منية الى البيت بعد نهاية يومها الدراسي ركضت لترى نجمة لكنها لم تجدها، لقد رحلت، فقد سلمها ابوها لعائلة في تونس العاصمة حتى تعمل لديهم كمعينة منزلية. لم تفهم عندها منية ما روي لها ولم تقتنع بتلك القصة وتلك التبريرات التي حاولت امها ان تنمقها وتزينها وتبوبها لها ضمن الظروف الاقتصادية والاجتماعية وحجم العائلة الكبير وواجب الابناء بمساعدة ابائهم عند الحاجة ورضاء الله ورضاء الوالدين...
ورغم مرور زمن، مازال ذلك الشعور بالغبن وعدم الحيلة يسيطر على منية كلما سمعت قصص صغيرات تغتصب طفولتهم ويحرمون من الدراسة ليتحولن الى عاملات او معينات منازل يُعلن عائلاتهن لسنوات.. يعملن بجهد.. يعانين من سوء المعاملة في الكثير من الاحيان .. يكبرن على ارض متحركة دون عائلة او سند.. وعندما ينطفئ ضياءهن يغادروننا في صمت يحملن ألم وجرح مجتمع غدر بهنّ وتشريعات وحكومات متتالية لم تنصفهن..
وتتعدد قصص معينات المنازل برتبة اطفال، لتعبر في كل مرة عن بشاعة جريمة يبدو ان الدولة تعجز الى غاية اليوم عن ايجاد اليات لمحاصرتها.. ولعل اخرها كان قصة طفلة «حوش حليمة» بمعتمدية فرنانة ذات الـ11 عاما التي احالها والدها على الانعاش لانها رفضت مغادرة مقاعد الدراسة والعمل كمعينة منزلية.. تم تناولها من قبل مختلف وسائل الاعلام كموضوع رئيسي واحتلت صدارة العناوين واتفق عندها الجميع، وزارة الاشراف ومنظمات المجتمع المدني والسياسيين ونواب الشعب.. ان الوضع لا يمكن السكوت عنه ويجب وضع حد لهذه الجريمة خاصة ان اطفال عائلة حوش حليمة على ما يبدو بصدد التعرض للاستغلال الاقتصادي ذكورا وإناثا على مرأى ومسمع الجميع دون ان يحرك ساكنا..
وتؤكد رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر روضة العبيدي، على خطورة الظاهرة التي تنتشر في عدد من ولايات الجمهورية وخاصة الأقل تنمية وتسير هذه الجريمة في الكثير من الأحيان بشبكات منظمة سمسار وعرض وطلب تكون العائلة المورط الأول فيها ولا تستفيد خلالها الضحية من أي مردود مادي من العمل الذي تقوم به..
وتشير في نفس الوقت العبيدي الى ان الاحصائيات الصادرة عن الهيئة والتي تمثل تجميع لبيانات عن مختلف الوزارات المعنية، لا تمثل انعكاس حقيقة للظاهرة، حيث من الصعب للغاية مراقبة الظاهرة من قبل السلطات فالمعينات المنزليات في الغالب يكن محجوزات داخل المنازل، تكون المشغلين الطرف الثالث في ظاهرة الاتجار بالأشخاص. والذي في العدد الاكبر من قضايا الاتجار بالاشخاص لا يتم ايقافهم او متابعتهم، حتى مع ما يتم نقلة من شهادات تؤكد حصول تجاوزات كثيرة، مثل التحرش النفسي والجسدي والمعاملة وظروف العيش السيئة...
سكيزوفرينيا المشرع..
وتعتبر العبيدي ان المشكل التشريعي و»السكيزوفرينيا» التي تعامل بها المشرع التونسي مع الظاهرة احد ابرز أسباب عدم التمكن من محاصرتها والحد منها.
وتفسر رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر فتقول، «جاء اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻷﺳﺎﺳﻲﻋﺪد 61 ﻟﺴﻨﺔ 2016 الﻣﺆرخ ﻓﻲ 3 أوت 2016 اﻟﻤﺘﻌﻠﻖ ﺑﻤﻨﻊ اﻻﺗﺠﺎر ﺑﺎﻷﺷﺨﺎص وﻣﻜﺎﻓﺤﺘﻪ، ﺑﻐﺎﻳﺔ ﺗﺄﻃﻴﺮﺷﺎﻣﻞ ﻟﻈﺎﻫﺮة اﻻﺗﺠﺎر ﺑﺎﻷﺷﺨﺎص ﻓﻲ ﺗﻮﻧﺲ وتشغيل الفتيات كمعينات منزليات كجريمة اتجار بالبشر وصنفها كجناية عقابها يتراوح من 10 سنوات الى غاية المؤبد ويتعامل القانون في هذه الجريمة مع العائلة «ظرف تجديد»..
وعندها هيئة ومجتمع مدني ونشطاء حقوقيين فرحنا كثيرا بالقانون، لكن ما راعنا بعد سنة ومع اصدار المشرّع للقانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المؤرخ في 11 أوت 2017 والمتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة، اولا تغييره لصبغة الجريمة من جناية الى جنحة ثم ثانية تخفيض العقاب الى 3 اشهر فقط.
وهذا المستجد، جعل القضاء امام خيارين في التعامل مع جريمة تشغيل الفتيات الصغيرات والاطفال بصفة عامة، كلاهما صحيح. كما خلق تضارب في المقاربة التشريعية وعدم وضوح في تعاملنا كدولة مع هذه الجريمة..
وتشدد العبيدي في هذا السياق، على ان الوقت قد حان ليفصل المشرع التونسي فيما يهم جريمة تشغيل الأطفال التي تصنف كجريمة اتجار بالبشر وبالتالي مواءمة تشريعاتنا لمواقفنا الرسمية المعلنة وللاتفاقات والمواثيق الدولية التي يشرّف تونس انها كانت من الدول الاول التي صادقت عليها.
حجم الجريمة في تونس
وحسب التقرير السنوي للهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر بسنة 2019، بلغ إجمالي عدد ضحايا الاتجار بالأشخاص الذين تم إحصاؤهم عبر تجميع البيانات 1313 ضحية، مثل عدد ضحايا الاستغلال الاقتصادي فيها ( استخدام طفل في التسول او تعاطي أنشطة هامشية) 425 اي ما يمثل نسبة 32.4 % .. وينقسمون الى 151 طفلة و276 طفلا. في نفس الوقت يحدد التقرير السنوي العدد الجملي للأطفال الضحايا بـ 612 طفلا اي ما يمثل 47 % من مجموع الضحايا. ليعتبر الاستغلال الاقتصادي الجريمة الأكبر المرتكبة في حق الأطفال في تونس وهي ما تمثل 83.6 % من الحجم الكلي للانتهاكات.
وتقول البيانات المتقاطعة للهيئة الوطنية للاتجار بالبشر، ان عدد المتورطين في جرائم الاتجار بالبشر قد تضاعف سنة 2019 ليبلغ عددهم الـ 841 (مقابل 301 في السنة التي سبقت 2018) منهم 309 مورطين في استغلال اقتصادي للأطفال.
وتؤكد الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر على خطورة تشغيل الأطفال وعلى تضاعف الظاهرة والمتورطين فيها خلال السنتين الماضيتين، وتعتبر ان جريمة الاتجار بالأشخاص انتهاكا جسيما للمبادئ الأساسية المتعلقة بحماية حقوق الإنسان وهي الجريمة الأكثر نموا في العالم.
الفقر والتسرب المدرسي
ويحذر باحثو علم الاجتماع من مشكلة التسرب المدرسي وظاهرة الفقر التي يعتبرون أنها المسبب الأول في سرقة أحلام الأطفال والفتيات في الدراسة ومواصلة تعليمهم.. تقرير مشترك نشر سابقا بين منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف”والبنك الدولي يقول ان 25 %من أطفال تونس فقراء.
كما تؤكد الأرقام الرسمية المعلنة من قبل وزارة التربية بتونس ان ظاهرة التسرب المدرسي قد تفاقمت خلال السنوات الأخيرة حيث تسجل الوزارة 280 حالة انقطاع عن الدراسة بصفة يومية. اقر وزير التربية السابق محمد بن سالم في جلسة مساءلة بالبرلمان، بعجز الوزارة عن مقاومة الظاهرة. يبلغ عدد المنقطعين خلال الخمس سنوات الماضية 526 ألف تلميذ.
◗ ريم سوودي
إضافة تعليق جديد